الحكواتي أو الراوي، شخصية شعبية يتذكرها الكبار ويتذكرون معها زمناً جميلاً أكثر يسراً وراحة بال من زمننا هذا الذي أصبحت فيه الشاشة الصغيرة (التلفزيون) في المنازل والمحال والمقاهي بمثابة حكواتي آلي على مدار اليوم، لا يتفاعل معه المتلقي الا وفقاً لما يقدمه له من مادة كلامية صوتاً وصورة، عبر الأثير الفضائي. فيما الحكواتي الانسان الذي كان يحتشد حوله الناس في المقاهي قديماً، كان لا يكتفي بسرد احداث القصة بتفاعل دائم مع جمهوره، بل يدفعه الحماس لأن يجسد دور الشخصية التي يحكي عنها بالحركة والصوت.
وما يميز حكواتي الأمس أيضاً تلك النفحة من القيم والفضائل التي كانت تتسم بها شخصيات رواياته، وكانت تغذي نفوس المتلقين وعقولهم ولا سيما الشباب منهم، على عكس ما تضخه في أيامنا هذه المحطات الفضائية ومقاهي الانترنت من عادات غريبة ومنفّرة.
والحكواتي شخصية واحدة جسدها كثيرون على مر عقود من الزمن، وهي مهنة عرفتها بلاد الشام منذ مطلع القرن التاسع عشر، وحظيت بشعبية كبيرة جعلتها جزءاً من التراث الشعبي في هذه البلاد ومنها لبنان.
ولمدينة صيدا الشهيرة بمقاهيها التراثية القديمة، قصة طويلة مع الحكواتي الذي طالما ارتبط اسمه بهذه المقاهي، والذي لم يعد مجرد شخصية أو مهنة أو حرفة برزت فيها خلال فترة معينة من الزمن، بل أصبح اسماً لاحدى عائلاتها "عائلة الحكواتي" التي تعتبر واحدة من أبرز عائلات المدينة حالياً.
يقول الباحث في التراث الدكتور طلال مجذوب ان الحكواتي مهنة أو حرفة انتهت بانتفاء الحاجة اليها. فهي كانت وسيلة تسلية جماعية وفي الوقت نفسه وسيلة تثقيف وترسيخ للقيم والأخلاق التي تحلى بها أبطال القصص والروايات التي كان يسردها الحكواتي، وهذه الحكايات والقصص ولو كانت غير واقعية، فانها تستند الى شخصيات تاريخية معروفة مثل عنترة والزير سالم والظاهر بيبرس وغيرهم.
ويضيف: عرفت مدينة صيدا خمسة حكواتية على مدى قرن ونصف قرن من الزمان، كان أولهم من حلب، الحاج محمد الشقلي الحلبي. جاء الى صيدا وأقام فيها ابتداء من العام 1837 وكان أول حكواتي في المدينة. وهناك أيضاً الحاج عبد الرحمن الحكواتي. وبعدهما جاء ثلاثة مارسوا هذه المهنة كان آخرهم الحاج ابراهيم الحكواتي الذي توفي سنة 1981 أي قبل 26سنة .
ويشير مجذوب الى أن عائلة الحكواتي الموجودة حالياً في صيدا أصلها عائلة السروجي، وأن فرعاً من هذه العائلة اتخذ اسم الحكواتي بعدما عمل أحد أفرادها حكواتياً.
وعن شخصية الحكواتي وعمله يقول: عمل الحكواتي كان يتركز في المقاهي الشعبية، ونذكر منها أشهر مقهيين في صيدا "قهوة الاجاز" و"قهوة الخيرية" وهذه الأخيرة كانت تابعة لجمعية المقاصد الخيرية الاسلامية في صيدا. كان عمل الحكواتي يمتد يومياً على فترتين: بين صلاتي المغرب والعشاء وهي فترة قصيرة لا تزيد على الساعة، وبعد صلاة العشاء وتمتد أحياناً حتى ساعات الفجر الأولى. فيقف الحكواتي مستعيناً بكتاب يصطحبه معه بشكل دائم، ويبدأ سرد الرواية او الحكاية التي غالباً ما تكون عن شخصية تاريخية، وتدور جميعها عن البطولة والشجاعة والشرف والمروءة ونصرة المظلوم. وفي نهاية كل حكاية لا بد وأن ينتصر الخير الذي يمثله بطل الرواية. ويبقي الحكواتي جمهوره في تشوق دائم لمعرفة وقائع القصة أولاً بأول، واذا ما طالت الحكاية لليال وأيام، فانه كان يحرص على أن تنتهي أحداث القصة كل ليلة بموقف متأزم والبطل في مأزق حتى يحمّس المتلقي ويجعله متشوقاً لسماع بقية الأحداث وكيف سيخلص البطل نفسه من المأزق. وما يزيد في الحماسة والتشويق أن الحكواتي كان يقوم بتجسيد شخصيات روايته وكلامهم بتحريك يديه وترفيع صوته أو تضخيمه. والمفارقة في الأمر أن بعض جمهور الحكواتي كان يرفض الذهاب الى بيته قبل أن يستمع إلى بقية القصة ويطمئن إلى أن بطله اجتاز محنته. ووصل الأمر مرة الى درجة أن أحد المستمعين لم يستطع أن يصبر إلى اليوم التالي، فلحق بالحكواتي الى بيته ليعرف بقية القصة.
أما أجرة الحكواتي فكان يتقاضاها من صاحب المقهى الذي يتولى تحديد بدل الدخول الى مقهاه بما في ذلك المشروبات، فكان الزبون يدفع عشر بارات أي ربع قرش مقابل الاستماع الى الحكواتي وثمن المشروبات. أو يدفع خمس بارات مقابل أي منهما.
وعما اذا كان هناك من خصوصية لمهنة الحكواتي في شهر رمضان، يقول مجذوب: عمل الحكواتي كان يتواصل على مدار السنة، لكن خصوصيته بالنسبة لشهر رمضان مرتبطة بان مواضيعه تتناسب مع الشهر الفضيل والقيم التي يمثلها، وهذه القيم عادة ما كان الحكواتي يتحدث عنها وعن فضائلها في رواياته ومجسدة بتصرفات أبطال هذه الروايات. كما أن الصائم بعد الصيام والتهجد والتعبد كان يحتاج الى وقت للراحة والترويح عن النفس، فكان يجد ذلك في جلسة الحكواتي، لكن طبعاً بعد أن يكون أدى صلاة التراويح.
آخر الحكواتية
لا يزال كثير من الصيداويين يتذكرون الحاج ابراهيم الحكواتي آخر الحكواتية (توفي عام 1981). كان يتميز بلباسه التقليدي (الجلباب والطربوش والزنار) ويحمل بيده عصا ومتأبطاً كتابه. ويتناقل البعض كلاماً عنه قاله في أيامه الأخيرة "يا سلام على أيام زمان. كان السميعة خيرة البلاد وكل البلاد. كانت تأتي كل يوم من بيروت أربع أو خمس سيارات دفعة واحدة وقد استمع إلي من "زوات" الناس عدد كبير. فأنا مختص في كل الأنواع: "الملك بيبرس والمماليك البحرية" وعنترة بن شداد والملك سيف بن ذي يزن وألف ليلة وليلة وعلي الزيبق ودليلة المحتالة وجحا ونوادره. كان الناس في صيدا يفضلون سيرة "الملك بيبرس والمماليك البحرية" على غيرها، وهم بالتالي تحكموا في ذوقي. كان سردها يتواصل ستة أشهر، وفي السنة التالية أسرد قصة أخرى ثم أعود إليها وهكذا. كانوا سميعة ممتازين، وعددهم وفير بدليل أن حالتي المالية ـ والحمد لله ـ كانت طوال الأربعين سنة في بحبوحة. ويكفي القول أن أجري، من دون مبالغة، كان عشر ليرات فقط وعلبة سجائر من صاحب القهوة، ولكن "النقوط" (التبرعات) كانت كافية لأبني بها مدينة".