بين الهلال والنصر..أطلق القمر بخور العبق الأزرق ..ترك الشمس غارقة في أفق الغروب ورش ضياءه ليغسل كل الطلاسم الصفراء.. ولم أستطع حساب فرص الأهداف الحقيقية والمحققة للهلال .. عاش ياسر نحسا لم ولن يصادفه بهذه القسوة أبدا ..أطلق غيريتس عاصفته الهجومية لتكتسح .. غير عابئ بمعادلة لوبانوفسكي ..كان جريئا ونجح ..كيف كانت قصة الديربي تقنيا وتكتيكيا وتشكيلة وشاكلة ..؟
الشاكلة الزرقاء ..إندهاش وتساؤلات
*هل نجزم أن غيريتس انتهج شاكلة 4-3-2-1 بوضع رباعي الدفاع لي وهوساوي وماجد والزوري ..وبوضع سدين منيعين في منتصف الملعب الأول ..مباشرة أمام المدافعين هما رادوي وعزيز ..وكان نيفيز إلى جانبهما ..يلدغ كنحلة ويحوم كفراشة ..
وبوضع بعد هذا الثلاثي ويلهامسون في اليمين ونواف العابد في اليسار.. يتحركان كآلة الأوكورديون طولا وعرضا ..ثم وضع ياسر القحطاني كمهاجم قار يحارب في مساحة شاسعة لوحده..
..وبما أن لكل شاكلة لعب آلية تكتيكية تحركها ..وتجسد هويتها ..فقد فاجأنا غيريتس برؤية فنية تنفيذية أرعبتنا في الأول ..أو قل اندهشنا لها بالتساؤل وتركنا نبحث من خلال المباراة عن لماذا ذلك ..؟ فماذا فعل غيريتس ..؟
محاور البلجيكي في خطابه التكتيكي .
..اعتمد خطابا هجوميا كاسحا ..بتحريك الظهيرين ..واقتراب رادوي وعزيز كثيرا من المهاجمين مع استغلال مساحة أخرى قليلا ما شاهدناها في لقاءات الهلال وهي فضاء تحريك صناعة اللعب .. ولفعل ذلك لا بد من صانع ألعاب من طراز رفيع وذكي ..وقد وجد غيريتس ذلك في نيفيز الذي بدا متحررا أكثر من كل المباريات التي لعبها سابقا ..فأنتج ..وصنع اللعب ..ومرر في الخانات المتاحة وكاد يسجل في أكثر من مناسبة ..وفي الأخير سجل هدفا على طريقة الكبار ..والكبار جدا ..
وعندما فتح غيريتس باب القيادة لنيفيز ..وضع أمامه منفذين اثنين كبيرين ..هما ويلهامسون في اليمين ..ونواف العابد في اليسار ..وبما أن إمكانات السويدي كبيرة فهو لم يكبله بأية تعليمات وترك حرية المبادرة واتخاذ القرار ..بينما كان العابد لا يتعمق كثيرا ولكنه لو تلاحظون يرفع كراته للمربع أو يمرر أمام حلقة المرمى ..بذكاء ونجاعة ..أي وكأنه جناح مزور أو جناح متأخر وليس على طريقة الجناح اللاتيني الذي يرفع جل كراته حتى يصل أمام عصا الزاوية ..حتى أن تمريراته كانت الأخيرة أي التمريرة الحاسمة في أكثر من مرة ..ولولا التسرع والرعونة لسجلت منها عدة أهداف حقيقية ..
ووضع ياسر القحطاني بشكل خاص بين غابة المدافعين ..لكن تحركات ياسر في المساحات أمام المرمى.. كانت مجدية جدا (اللعب من دون كرة) لأنها تفتح فضاءات أخرى لزملائه القادمين من خلف ..وكان غيريتس يعرف جيدا أن ياسر ضمن هذا الوضع من الصعوبة الشديدة أن يتحصل على فرص سهلة ..لكن دوره في التشويش على المدافعين وإرباك بوصلتهم نحو من يحمل الكرة ولمن ستذهب هذه الكرة سيكون دورا كالفخ ..ورغم هذا الوضع التكتيكي فإن الذكاء الرائع للقناص جعله يحقق معادلة التواصل وخلق الفرص ..لدرجة أنه انفرد بالمرمى مرات عديدة .. وتهيأت له فرص تسجيل سهلة .. بسيطة .. أضاعها بشكل استغربنا له جميعا .. وسيكون أول المستغربين بالتأكيد ياسر القحطاني نفسه عندما يرى المباراة بواسطة الفيديو ..لكن لماذا حدث هذا لياسر ..؟
في عالم كرة القدم ..ليس هناك من تفسير سوى أنه لم يكن في يومه كما يقولون ..أو خاصمه الحظ ..بل قسا عليه كثيرا لأنه في النهاية لم يسجل وتم تغييره .. ياله من غبن ..ألا يقولون أعطني حظا وارمني في البحر ..!!
*.. رعب مصيدة التسلل
..الشق الثاني التكتيكي الذي انتهجه غيريتس هو اعتماده المطلق على الدفاع الخطي ومصيدة التسلل .. وهو فعل (خطير) نادرا ما يلجأ إليه المدربون في مثل هذه المباريات الدقيقة والحساسة والقوية والمؤثرة نفسيا ..
هذه المصيدة (قمعت فنيا) هجومية النصر ..وأوقعت مهاجميه في شراك الشرود أو التسلل مرات ومرات عديدة ..مما كان يسهل باستمرار فرصة بداية أو إقلاعة بداية اللعب للهلال.. وهي من .. من أهم الأساسيات في كرة القدم ..وهو ما يسمى بالفرنسية "طلارولانس" .
..أما شق التشكيلة ..فقد فاجأنا غيريتس بعدم الاعتماد على المبدع الشلهوب ..وأدخل بدله منذ البداية الشاب الواعد نواف العابد ..
لكن المفاجأة اتضحت عندما شاهدنا قائد اللعب الجديد في الهلال نيفيز ..حيث لم يكن غيريتس مستعدا للعب هذه المباراة المهمة بصانعي لعب –نيفيز والشلهوب ..ففضل أولا أن يعتمد على حيوية نواف وتنفيذه للرفعات العرضية وجاء توقعه صحيحا ..ثانيا ليحتفظ بالفنان الشلهوب كورقة رائعة ورابحة ..في أية لحظة من المباراة يرى فيها دخول الشلهوب ضروريا وفاعلا ..
أيضا كان بالإمكان كما تصور المتابعون أن يعتمد على المحياني بدل نواف لكن ولأن عيسى رجل حلقة المرمى بالاختصاص تركه ضمن احتياطي الأوقات الأخرى والحرجة داخل متغيرات اللقاء
*..معادلة المد الهجومي
وعندما طرحت إشكالية المد الهجومي الذي اعتمده غيريتس منذ انطلاقة المباراة ..هوت التساؤلات كالمطارق على رؤوس المتابعين خصوصا بعد اكتساح هجومي للهلال خلال الشوط الأول ..وكانت مرعبة ..هل تستطيع لياقة اللاعبين البدنية تحمل كل هذا الجهد حتى في الشوط الثاني ...؟
وكبر حجم هذه التساؤلات عندما اقتنص فيندونو فرصة من الزمن المنسي والتركيز برأسه هدف النصر في الدقيقة 55 ..لأن على الهلال البحث عن التعادل أولا ..والبحث عن الفوز ثانيا ..والبحث عن لياقة بدنية فاعلة ثالثا ..؟
..لكن غيريتس كان يعرف أن تداريب الصباح والمساء والعمل الاحترافي الذي قام به لا بد أن ينتج لياقة بدنية مرتفعة ..ومقاومة ترتقي لـ 90 دقيقة وأكثر بكثير ..وذلك ما حدث ..حيث لعب الهلال 120 دقيقة بلياقة بدنية 10 على 10 خصوصا أمام المعادلة المعروفة في كرة القدم ..أن الفريق الذي يلعب الدفاع يحتاج لمجهود بدني أكثر وإلى تركيز أكبر ..
..وإذا كان المدرب الكرواتي ليبانوفسكي في نظرية اللاتوقع قد أشار إلى أن الفريق الذي يتدفق هجوميا ويمارس البريسينغ العالي أكثر من 20 دقيقة ولا يوفق في التسجيل لا بد أن يتوقع تلقي هدفا في مرماه في أية لحظة ..إلا إذا تراجع وسحب الخصم وأخرجه من قوقعته التكتلية القاتمة ..
إذا كان الكرواتي قد قال ذلك فهو محق ..لأن الهلال رغم الاكتساح الشامل لم يسجل ..بل وتلقى هدفا مفاجئا مع بداية الشوط الثاني ..فماذا لو كان ذلك حصل قبل عشر أو خمس دقائق من نهاية اللقاء ..؟
ومع كل ذلك أصر غيريتس على عدم التراجع والاستمرار في التدفق الهجومي الذي أنتج هدفا جميلا وعالميا ..للساحر الهلالي الجديد نيفيز ..ثم استمر ..واستمر حتى الإضافيين ..وحتى تم تسجيل هدف الفوز الذي تأخر كثيرا جدا .. حتى الدقيقة 112 أي قبل نهاية هذا الماراثون بثماني دقائق ..
كثير من المدربين لايجازفون كما فعل غيريتس ولكن البلجيكي في الهلال جريء .. ويتملك ذكاء تكتيكيا راقيا ..وهذا ما أوصله إلى المراتب العليا بين مدربي العالم ..فالخوافون والمتحفظون ينجحون أحيانا ..ويتورطون كثيرا ..ودائما ..
...لقد قدم الهلال مباراة كبيرة رائعة واستحق فوزه على النصر وعلى الحظ ..وأهدى كل عشاقه ثقة الكبار ..الثقة التي لا تتزحزح ..مقاومة للشمس والماء وكل العواصف الصفراء الواهمة ..