مماذكر عن قبيلة عذرة من قصص الحب والغرام
حدث أبو عمر بن العلاء ( من أئمة اللغة والأدب ) قال : حدثني رجل من تميم قال : خرجت في طلب ظالة لي ، في أرض بني عُذرة ( من قضاعة من قحطان ، من المعروفين بالعشق والعفة فيه ، حتى قيل لأحدهم : مابال العاشق منكم يموت في سبيل العشق ، قال : إنها العفة ) إذا ببيت منعزل عن البيوت وفي جانبه شاب مغمى عليه ، وعند رأسه عجوز ، بها بقية جمال ، ساهية تنظر إليه . سلمت عليها فردت السلام ، فسألتها عن ظالتي فلم تعلم بها ، فقلت : من هذا الفتى ؟ فقالت : ابني ، قلت : ومابه ؟ قالت : يهوى ابنة عمه منذ كانا صغيرين ، فخطبها إلى أبيها فمنعها إلى غيره ، فلما كان مــُــذ خمس زفت إلى زوجها ، فأخذه شبه الجنون ، فنحل جسمه واصفر لونه ، فهو كما ترى يفيق ويعود لا يأكل ولا يشرب ، فلو نزلت إليه ووعظته ؟ قال : فنزلت إليه فلم أدع موعظة إلا وعظته بها ، فرفع رأسة محمرة عيناة شاحب وجهه وأنشد :
ألا لا يضر الحب من كان صابراً =ولكن ما اجتاب الفؤاد يضيرُ
ألا قاتل الله الهوى كيف قادني =كما قـِـد مغلول اليدين أسير ُ
فأرخى رأسه كالمغشى عليه ، فما زلت أعظه حتى أفاق ثانية وأنشد :
ألا ما للمليحة لم تعدني =أبخل بالمليحة أم صدودُ
مرضت فعادني أهلي جميعاً =فمالك لم تـُـرى فيمن يعودُ
فقدتكِ بينهم ، فبكيت شوقاً=وفقد الألف يا أملي شديدُ
وما استبطأت غيرك فاعلميه =وحولي من ذوي رَحِمي عديدُ
ولو كنتِ المريضَ لكنت أسعى=إليكِ وما يهددني الوعيدُ
ثم شهق شهقة ً وخفَـتَ خَفتةً ، فداخلني أمر ما داخلني مثله قط ، والعجوز تبكي ، فقال : أمات ؟ قلت هو كذلك ، فقالت : إستراح من تباريحه وغصصه ، تعني ( الشوق والأحزان والهموم ) فقالت : هل لك في أجر لا مؤونة فيه ؟ قلت إي والله لي في ذلك ، قولي ما شئتِ ، قالت : تأتي البيوت فتنعاه إليهم ليعاونوني على رمسه ( دفنه ) وركبت فرسي وأتيت البيوت رافعاً صوتي بنعيه ، لم ألبث أن خرجت لي فتاة مسرعة من إحدى البيوت من أجمل ما رأيت من النساء ، ناشرة شعرها ، حديثة عهد بعرس ، تقول : بفيك الحجر المميت ، من تنعي ؟ قلت أنعي فلاناً قالت : أوقد مات قلت : إي والله ، قد مات ، فتعلقت بلجام فرسي وجثت على ركبتيها وقالت : هل سمعت له قولاً ؟ قلت : اللهم شعراً قالت : وما هو ؟ فأنشدتها أبياته ، فبكت بكاءً مرا ، وقد وضعت راحتيها على الأرض وشعرها قد تدلى من فوق رأسها ، فرفعت بصرها وأنشأت تقول :
دا بي أن أزورك يا مرادي =معاشرُ كلهم واشٍ حسودُ
أشاعوا ما علمت من الدواهي =وعابونا وما فيهم رشيدُ
فإما إذ ثويت اليوم لحداً =وكل الناس دورهمُ لحودُ
فلا طابت لي الدنيا فراقاً=ولا لهمُ ولا أثـَري العديدُ
ثم وقعت مغشي عليها ، وخرجت النساء من البيوت إليها ، فاظطربت ساعة وماتت . فوالله ما برحت حتى رأيت دفنهما جميعاً .
ومن بني عذرة بثينة عشيقة جميل يذكر انها دخلت على عبد الملك بن مروان ، فقال لها : يابثينة ، ما أرى فيكِ شيئاً مما كان يقوله جميل . فقالت : يا أمير المؤمنين ، إنه كان يرنو ( ينظر ) إلي بعينين ليستا في رأسك !! قال : فكيف رأيته في عشقه ؟ قالت : كان كما قال الشاعر :
لا والذي تسجد الجباه له =مالي بما تحت ذيلها * خبرُ
ولا بفيها ولا هممت بها=ما كان إلا الحديث والنظرُ
ومما ذكر عن الحب العذري لغير بني عذرة
خرج سليمان بن عبد الملك ، ومعه يزيد بن المهلب فدخلا إحدى مقابر الشام لحاجة ، فإذا امرأة جالسة على قبر تبكي يقال لها لطيفة الحدانية _ تزوجت ابن عم لها فولعت به ولعاً شديداً ثم مرض ومات فاستولى عليها الحزن_ قال سليمان ، فاستشعرتنا فرفعت وجهها ، فإذا به كالشمس ، فوقفنا في حيرة ننظر إليها . فقال لها سليمان : من أنتِ ومن ذا الذي في القبر ، فأطرقت رأسها ولم تجب ، فأعجب بها سليمان . فقال لها يزيد يا أمة الله ، هل لكِ في أمير المؤمنين بعلاً ، ( زوجاً ) فنظرت إلينا ثم أنشأت تقول :
فإن تسألاني عن هواي فإنه =يحُــلُ بهذا القبر يا فـَـتَياني
وإن تسألاني عن هواي فإنه =مقيم بحوضي أيها الرجلان
وإني لأستحييه والترب بيننا =كما كنت أستحييه وهو يراني
أهابك إجلالاً وإن كنت في الثرى= وأكره حقا أن يسؤك مكاني
فنظر سليمان ليزيد وقال : هكذا يكون العشق يابن المهلب .
اخواني انتهى الموضوع راجيا من الله لكم المتعة والفائدة وقد اضفت اليه الجزء الثاني ليكتمل نسبا وقصصا عن بني عذرة وعن حبهم العذري
السلام عليكم ورحمة الله