إننا أمة تؤثر فينا تقاليدنا وموروثاتنا الاجتماعية وأعرافنا تأثيراً كبيراً، حسنها وسيئها، فقد ورثنا إلى جانب المروءة والشجاعة والكرم، العصبية القبلية التي تكاد تعصف بكل موروثاتنا الحميدة الأخرى. حيث أضحت تصنيفاً اجتماعياً قاسياً يؤخذ به أكثر من العدالة الاجتماعية الإسلامية في الزواج والعمل والتعليم، بل وحتى في التعامل اليومي بين أفراد المجتمع، وبعد أن ودعنا زمان الاقتتال والحروب بين قبائل يجمع بينها بلد واحد، ودين واحد، ولغة واحدة، إذا بنا ننقل المعركة إلى ميدان آخر، ميدان الحياة الاجتماعية، فهذا فلاني وذاك علاني، والثالث لا هذا ولا ذاك، وكأن الله سبحانه وتعالى قد أعطانا الحق في تقسيم الناس تقسيماً لم يقره هو سبحانه، ولم يسنّه لنا النبي صلى الله عليه وسلم، وأصبحت لنا شريعة أخرى غير شريعة الله وبتنا نخشى الناس والمجتمع أكثر من خشيتنا الله. واقتران العصبية القبلية بالجاهلية كاف لنبذ الناس لها ولكنها لا تزال فيهم تصديقاً للحديث الشريف: (ثلاث من فعل الجاهلية لا يدعهن أهل الإسلام. . . ) وذكر منها (دعوى الجاهلية يا آل فلان يا آل فلان).
وما ورد في القرآن الكريم والسنّة الشريفة من آيات وأحاديث كثير ومستفيض كما ذكرنا، لأن العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس هي إحدى الأسس التي قامت عليها الدعوة الإسلاميّة، فساوى الرسول ً بين عبيد مكة وأشرافها، وأغنيائها وفقرائها، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وبين العرب ومواليهم من الأحباش والفرس والروم، ودروس السيرة النبوية في ذلك كثيرة، ويكفي حديث (سلمان منّا آل البيت).
والعصبية مأخوذة في اللغة من (العَصْبِ) وهو: الطَّي والشَّد. وعََصَبَ الشيء يَعْصِبُه عَصْبَاً: طواه ولواه، وقيل: شدَّه. والتَّعَصُّب: المحاماة والمدافعة. والعََصَبَة: الأقارب من جهة الأب، قال الأزهري: عصبة الرجل: أولياؤه الذكور من ورثته، سمُّوا عصبة لأنهم عُصبوا بنسبه، وكل شيء استدار بشيء فقد عُصب به. والعُصْبَة والعِصَابة: الجماعة. ومنه {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} الآية، ومنه حديث (إنْ َتهْلِكْ هَذِه الْعِصَابَةُ). وعَصِِيْب: شديد ومنه قوله تعالى : {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} الآية(1) هذا تعريفها لغة .
أما في الاصطلاح فجاء في لسان العرب: هي-أي العصبية-: (أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم، على من يناوئهم ظالمين كانوا أومظلومين). (2)وعرفها ابن خلدون بأنها: (النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة. . . . ومن هذا الباب الولاء والحلف إذ نعرة كل أحدٍ على أهل ولائه وحلفه). (3) وعرفها بعضهم بأنها: (رابطة اجتماعية سيكولوجية، شعورية ولا شـعـوريـة معاً، تربـط أفـراد جماعـة ما، قائمة على القرابة، ربطاً مستمراً يبرز ويشتد عندما يكون هناك خطر يهدد أولئك الأفراد كأفراد أو كجماعة). (4) وقال آخر: (العصبية معناها: التلاحم بالعصب، والالتصاق بالدم، والتكاثر بالنسل، ووفرة العدد، والتفاخر بالغلبة والقوة والتطاول). (5) إلى غير ذلك من تعريفات وتفسيرات للعصبية تدور في مجملهاحول معنيين رئيسين هما (الاجتماع والنصرة) اللذان يمثلان صلب العصبية، ومع أن العلماء والكتّاب ذكروا للعصبية تعريفات متنوعة إلا أنها لاتخرج عن هذين المعنيين. سواء أ كان ذلك الاجتماع والتناصر على حق أم كان على باطل. أما القبليّة فهي نسبة إلى القَبِيْلَة (والقبيلة من الناس: بنو أب واحد. ومعنى القبيلة من ولد إسماعيل معنى الجماعة يقال لكل جماعة من واحد "قبيلة"). (6) ومن التعريفات السابقة لـ (العصبية) و(القبلية) يمكن أن نعرّف (العصبية القبلية) بأنها: (تضامن قوم تجمعهم آصرة النسب ونصرة بعضهم بعضاً ظالمين أو مظلومين ضد من يناوئهم). فعن بِنْتِ وَاثِلَةَ بْنِ الأسْقَعِ أَنَّهَا سَمِعَتْ أَبَاهَا يَقُولُ قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْعَصَبِيَّةُ قَالَ أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْم). (أخرجه أبو داود)
وللعصبية أنواع مظاهر متعددة، وماأشرت إليه آنفاً من أنها تعصب ذوي القربى وتضامن أبناء القبيلة إنما هو معناها في أصل اللغة الذي يعود إلى كلمة عَصَبَة، غير أن معناها توسع فأطلقت على أنواع أخرى من التعصبات بحسب الغرض الذي نشأت لأجله والسبب الذي اعتمدت عليه، ومن الصعوبة بمكان حصر أنواعها ولكن يمكن ضرب الأمثلة لها بعصبيات (الجنس أو اللون أو اللغة أو المذهب أو الوطن أو الحزب أو القوم أو الجنسية. . . . وهكذا). ومنها كما قلت عصبية النسب أو العصبية القبلية التي هي مدار حديثنا هنا.
وليس غريباً أن توجد أو تتفشى العصبية القبلية في كثيرٍ من المجتمعات الإسلامية وبخاصة العربية منها وفي جزيرة العرب تحديداً حيث أصل العروبة وجرثومتها فقد أنبأ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرناً فأخبر أن ثلاث خصال من خصال الجاهلية تظل في أمته ولايدعها أهل الإسلام منها التفاخر بالأحساب والطعن في الأنساب فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث لم تزلن بأمتي: التفاخر بالأحساب، والنياحة، والأنواء). (صحيح الجامع الصغير وزيادته)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من فعل الجاهلية لايدعهن أهل الإسلام: استسقاء بالكواكب، وطعن في النسب، والنياحة على الميت). (صحيح الجامع الصغير وزيادته)
وفي رواية أحمد بن حنبل رحمه الله (ثلاث من عمل الجاهلية لايتركهن أهل الإسلام النياحة على الميت، والاستسقاء بالأنواء، وكذا، قلت لسعيد وماهو؟ قال دعوى الجاهلية ياآل فلان ياآل فلان ياآل فلان). (مسند الإمام أحمد)
إذاً فالتعصب القبلي - كغيره من الخصال الثلاث - لايزال باقياً في أمة الإسلام كما أخبر بذلك نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، ولكن بقاءه لايعني أنه أصبح أمراً مقبولاً أو واقعاً محتوماً يعذر المسلم إذا ما سايره أو انخرط فيه، فليس هذا هو المعنى المقصود من الأحاديث بل المقصود هو تحذير الأمة من اتّباع عادات الجاهلية والانسياق خلف دعاواها الباطلة. ومع هذا التحذير النبوي الشريف نرى كثيراً من الناس متأثرين بالعصبية القبلية حتى أصبحت حديث سامرهم وشغل شاعرهم.
ليس خطأ أن يحفظ الإنسان نسبه وحسبه، ولكن الخطأ أن يعتقد أن ذلك هو معيار التفاضل بين البشر أو يتخذ ذلك سبباً للتعالي والتكبر على الآخرين أو التفريق بين عباد الله المسلمين وتصنيفهم إلى طبقات وفئات تفصل بينهم حواجز النسب وعوازل الحسب. ليس محموداً للإنسان أن يفخر على غيره بما كان من كسب يده فمابالك بما ليس من كسبه ومالاجهد له فيه ؟!
مامعرفة الشخص لنسبه إلا نعمة خالصة من الله فهو سبحانه شاء لك أن تولد ابن فلان الفلاني ولوشاء سبحانه أن تولد ابن فلان من الناس لنَفَذَتْ مشيئة الله، إذاً فالنسب نعمة تستحق الشكر لاالفخر ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة حيث قال: ( أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلا فَخْرَ) (أخرجه ابن ماجه)، وقبل ذلك قول الله تعالى: {ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فالله سبحانه يقول (لتعارفوا) وليس لتفاخروا وتعاظموا. فليس عيباً أن يعرف الإنسان نسبه حتى يتحقق التعارف بين الناس شعوبهم وقبائلهم، ولكن العيب أن يكون ذلك مدعاة للتعاظم والتعالي على غيرهم. فمابال أقوام ينحون هذا المنحى ويدعون بهذه الدعوى والله سبحانه قد وضع الميزان الذي لايختل (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)؟!
ويمكن تلخيص موقف الإسلام من العصبية في النقاط التالية:
1- إلغاء العصبية الجاهلية والتحذير منها، يتجلى ذلك في كثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ). (أخرجه أبو داود) وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ (7) يَغْضبُ لعَصَبَةٍ أو يَدْعُو إلَى عَصَبَةٍ أو يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ).(أخرجه مسلم)
2- المساواة بين الناس وعدم الاعتراف بالامتيازات الطبقية أو النفوذ الموروث فأساس التفاضل التقوى والعمل الصالح قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }الآية وعَنْ أَبِي نَضْرَةَ قال حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلا لأحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاّ بِالتَّقْوَى) (أخرجه أحمد) وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (كَانَتْ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا فَأَتَى أَهْلُهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَكَلَّمُوهُ فَكَلَّمَ أُسَامَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَا أُسَامَةُ لا أَرَاكَ تُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا فَقَالَ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُ يَدَهَا فَقَطَعَ يَدَ الْمَخْزُومِيَّةِ ). (أخرجه مسلم)
3- إلغاء كل أنواع العبودية الأرضية بين الناس وإثبات العبودية لله الواحد الأحد قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}.
4- النهي عن التفاخر والتعاظم بالآباء والأجداد والمآثر والأمجاد فعنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى َلا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ولا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ). (أخرجه مسلم)
اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وصلى الله وسلم هلى نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.